الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم:6).
وهذا الحق من آكد الحقوق على الوالدين، وهو من الواجبات التي تتطلب جهدًا دءوبًا وعملاً متصلاً، ولن يقي المسلم نفسه من عقاب الله إن لم يربِ أبناءه على طاعة الله -تعالى-.
ولما كان الولد من جملة أهل الرجل؛ كانت الآية دليلاً على وجوب تعليم الوالد ولده وتربيته وإرشاده، وحمله على الخير والطاعة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتجنيبه الكفر والمعاصي والشرور؛ ليقيه بذلك من عذاب النار.
ومن ذلك -أيضًا-: تعليمه الصلاة وما يحتاجه من الآداب، فعن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبِيهِ عن جَدّهِ -رضي الله عنهم- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَوْلاَدَكُم بالصّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْع سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ سِنينَ، وَفَرّقُوا بَيْنَهُمْ في المَضَاجِعِ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
ومن إحسان الأدب أن يعاقبه إن احتاج الأمر؛ لئلا ينشأ على الرعونة والإهمال، أو الجرأة على المحارم دون زاجر.
لقد انتشرت في العصور الإسلامية السابقة وظيفة جليلة كانت تسمى وظيفة "المؤدِّب" حيث كانت الأسرة تدفع بولدها لرجل يعرف بالصلاح في دينه وبالعلم الشرعي الوافر.
وبالخبرة في تواريخ العرب وأشعارهم وأنسابهم؛ ليربي الابن على المكارم والشجاعة والفصاحة، والكرم والشهامة؛ وبالجملة على كل محاسن الأخلاق.
وكان ذلك المؤدب يحظى في قلوب أبناء المسلمين بمكانة تكاد تقارب مكانة الوالد في الهيبة والاحترام... فلماذا اختفت هذه الوظيفة من مجتمعاتنا الآن؟!
حق الأطفال في اللعب والتدليل:
الأصل في الإسلام أن يأخذ الطفل حقه من العناية واللعب كما يأخذ حقه من التربية والتعليم.
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضرب المثل بذلك في حياته الشريفة، فكان يترك الحسن والحسين -رضي الله عنهما- يمتطيان ظهره الشريف في الصلاة، كما في حديث عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي إِحْدَى صَلاَتَي الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَهُ.
ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاَةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاَتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا. قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي؛ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاَتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ. قَالَ:
(كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِىَ حَاجَتَهُ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يأذن للسيدة عائشة -رضي الله عنها- أن تلعب مع صديقاتها، وكان لها لعب من الصوف، وفرس له جناحان، ففي صحيح مسلم عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-.
قَالَتْ: وَكَانَتْ تَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنّ يَنْقَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسَرّبُهُنّ إِلَيَّ.
وفي صحيح مسلم أيضًا: عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنّ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ فِي أَيّامِ مِنىً، تُغَنّيَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَرَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُسَجّى بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ. فَكَشَفَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْهُ.
وَقَالَ: (دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنّهَا أَيّامُ عِيدٍ). وَقَالَتْ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ. وَأَنَا جَارِيَةٌ. فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السّنّ".
ومعناه: أنها تحب اللهو والتفرج، والنظر إلى اللعب حبًا بليغًا، وتحرص على إدامته ما أمكنها ولا تمل ذلك إلا بعذر من تطويل.
والعَرِبَةِ -بكسر الراء- أي: المشتهية للعب المحبة له.
وعن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ لِكَي أَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ. فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ حَرِيصَةً عَلَى اللَّهْوِ" (متفق عليه).
وقالت -رضي الله عنها-: وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السّودَانُ بالدّرَقِ وَالْحِرَابِ. فَإِمّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-. وَإِمّا قَالَ: (تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟) فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَأَقَامَنِي وَرَاءه. خَدّي عَلَىَ خَدّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ) حَتّىَ إِذَا مَلِلْتُ قَال: (حَسْبُكِ؟) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: (فَاذْهَبِي) (متفق عليه).
يتبين لنا مما سبق أنه كانت هناك مساحة للترفيه والتدليل أقرها الإسلام وأمر بها، والله أعلم.
مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ:
عن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قالت: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللَّهِ مَا نُقَبِّلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللَّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ) (متفق عليه).
وعن أبي هريرة -رضي اللّه عنه- قال: قَبَّلَ النبيُّ -صلى اللّه عليه وسلم- الحسنَ بن عليّ -رضي اللّه عنهما- وعنده الأقرعُ بن حابس التميمي. فقال الأقرعُ: إن لي عشرةً من الولد ما قبّلتُ منهم أحدًا، فنظرَ إليه رسولُ اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- ثم قال: (مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ) (متفق عليه).
وَعَنِ عَبْدِ الله بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِــيهِ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ إذْ أَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ وَحَمَلَهُمَا فَقَال: (صَدَقَ اللّهُ إنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ؛ رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا فَلَمْ أَصْبِرْ حَتّى نَزَلْتُ فَحَمَلْتُهُمَا) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصححه الألباني).
فهذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم الأمة كيفية التعامل مع الأطفال، وصدق الله -العلي العظيم- إذ يقول: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128).
وللحديث بقية -إن شاء الله-...
الكاتب: ياسر عبد التواب
المصدر: موقع صوت السلف